كوردی عربي بادینی
Kurdî English

أخبار أراء التقارير لقاءات اقتصاد ملتميديا لایف ستایل ثقافة و فنون
×

قراءة في رواية «حفلة أوهام مفتوحة» للكاتب الكوردي هوشنك أوسي

/الحرب عمياء، مهما حاولت الايديولوجيات تجميل قباحتها وقذارتها، الحرب عمياء وكل المشتركين فيها عميان /

/يفضلُ الكثير منا المرايا المحدّبة، رغم تأكدهم من أن صورهم المعكوسة وهمية ومخادعة ولاتفصح عن الحقيقة، والبعض منا لايحب أن تعكس المرآة حجمه الحقيقي وصورته المشوهة من الداخل والأنيقة من الخارج، لذلك يحاولُ كسر

أي مرآة تمنحه صورة عن حجمه الحقيقي /

 في رواية/حفلة أوهام مفتوحة/ للكاتب والشاعر والصحفي الكوردي السوري - هوشنك أوسي - نعيشُ عالماً غنياً ثرياً بالوقائع والأفكار والشخصيات، عالماً جريئاً في الطرح, ومستنداً إلى الحكمة المتناغمة مع التصوف، وخلاصة أفكار تلاقت حيناً، وتضاربت وتمازجت حيناً أخر، لتصنع لنا قالباً من التجربة والحكمة جاهز المتناول، لنفهمَ المشهد أكثر ولنشاهدَ البشع بشعاً والجميل جميلاً.

في- حفلة أوهام مفتوحة - يعري الكاتب الكثير من الخفايا وبعض الحقائق التي ندركها ربما ولكن مسكوتٌ عنها، عاكساً بمرآته المشهدَ ومشرعاً الأبواب على مصراعيها، لنلجَ إلى عالمٍ واسعٍ من الأفكار والأحداث، والغوصِ عميقاً في تفاصيل قد كانت للكثيرين مخبوءةً وصارخةً بالشعارات الرنانة البراقة وكأننا بها ننشدُ اللؤلؤ المكنون.

في قالبٍ روائي متداخل ولكنه محكمٌ، وتقنيات سردية ذات قيمة، وبلغةٍ سهلةٍ وانسيابية لم ينسَ أو يتناسى كاتبنا أنه شاعرٌ، فألبسَ الكلمةَ حليتها (مامن شاعر بلا ندم، ومامن ندم بلا شاعر)

ولأنه ساردٌ ماهرٌ يمضي بنا حيث يشاءُ من عوالمه الروائية، في نسيجٍ رائعٍ يعكسُ رؤى الكاتب العميقة والانسجام والتفاعل والتكامل في طرحه، وهذه مهمة الأدب الحقيقية.

روايةٌ تقع في ٣٢٧ صفحة، بل هي ثلاث روايات منفصلة الأفكار والحكايا ضمن رواية واحدة، وكأنها لعبة الماتريوشكا

قد نتوهُ في البداية حيناً حتى نمسكَ بالخيطِ ونفرزَ تلك العوالم التي تتشعب بعض الشيء، ولكن بعد ذلك نمضي سعداء ونلجُ رواية تلو أخرى، لنعرف أكثر وعبر مسافاتٍ زمنيةٍ وجغرافية واسعة ومتنوعة جداً ، من بلجيكا إلى كوريا، إلى تركيا وسوريا وكوردستان وألمانيا وباريس.

حيث مساحة الأمكنة والأزمنة متشعبة، ولكنها لاتتّوه والقارئ المجتهد الذي يجيد استعمال البوصلة، وملازمة خيط الرواية بشغفٍ.

في الروايةِ الكثيرُ من القصص بعضها حقيقيةٌ ولايصعبُ أن نقدر ذلك، مع كم الأحداث والأسماء والأماكن الغير غريبة عن تكوين الذاكرة، ولكن الكاتب ينقر بها على جدران معرفتنا لنعرف أكثر، لنكشف زيف بعض الحقائق ولنلامسها أكثر، ونعرف كيف صِيغتْ بعض الايديولوجيات، وكيف اكتشفنا زيفها، لتأخذ شكلها الحالي في أذهاننا، هي تلك المحاولة الحثيثة لكشف أوهام حياةٍ مفتوحةٍ على الكثير من الخداع والصراعات.

تذخرُ الروايةُ بالقصص والشخصيات والحكايا - الحرب الكورية- التي نفهمُ بعض معالمها من خلال الرواية الأولى -غريبٌ على أرضٍ غريبة-

 والتي تلخصُ قصةُ جنديٍ بلجيكي، يحملُ في جعبتهِ بعضَ الأمال الواهمة عن الثورات، وهو غيرُ جاهلٍ بدوافع من يطبخون الحروب ويبتعدون عن أماكن مسارحها، ليكونَ رومانسيو الثورات وحاملو شعاراتها، حطباً ووقوداً لأتونِ نارٍ ملتهبةٍ، يفقد هذا الجندي الذاكرة في تلك الجغرافية العمياء، ويكتسب هناك الهوية الكورية، ويتمُ تسفيره بعد أحداثٍ عدةٍ إلى تركيا، بسبب الشبه وبعض التفاصيل المتقاربة بينه وبين جندي تركي مفقود، فيكتسبُ هناك الهوية التركية الكوردية، ليكتشفَ لاحقاً وعبرَ أحداث كثيرة، أنه ليس ابن تلك العائلة المفقود فيمضي إلى بلجيكا، ليس كمواطنٍ بلجيكي، بل كعاملِ فحمٍ فقير فاقد حتى إحساس الانتماء لبلجيكا ، لتلعبَ بعضَ المصادفات دورها، ويكتشفُ هويته البلجيكية ويرجعُ لعائلته غريباً أكثر، يحملُ ثلاث هويات والكثير من الأفكار المتنازعة، وحيداً تتطاحنه رحى حروب خاضها وأسماء لايتذكرها، وأماكن ينتمي إليها ولاتنتمي إليه، ليضربَ برأسهِ ذاتَ يأسٍ وقساوة القبر، الذي وُضِعَ فيه مجهولٌ على أنه هو ، كيف ولماذا متى وأين!!!!

وحدها الحروبُ تعرفُ ذلك، وحدها الحروب تشوهُ ملامح أبناءها، وحدها تعرف كيف تبتلعُ بشاعة الموت الجمالَ والنقاء وشغف الحياة ، وتترك خلفها أشباه بشرٍ ليس إلا.

الرواية الثانية /موتى يعيشون أكثر منا /

وهي قصة - يان دو سخيير - ابن الجندي البلجيكي ألفونس وهو أيضاً الكاتب البلجيكي المتعاطف مع الأكراد، بعد تسرب المشاعر الكوردية إليه من خلال أمه الكوردية من ديار بكر التي لم يقطعْ علاقته بها، يان الذي يستمعُ لصديقه - أوميد سرختي- ذلك المنشق عن حزب العمال الكوردستاني والطبيب الذي ألهبت روحه صورة الفتاة التي يحبها، وهي تشعل النار في جسدها فوق السور التاريخي لمدينة ديار بكر، لتقول كلمتها الحاسمة.

أوميد يحفرُ في كبد الحقائق، وينفضُ الغبارَ عن الكثيرِ من القناعات المزيفة، للمترجمة الكولومبية التي عرفتْ تركيا، من خلال قصائد ناظم حكمت، وأورهان كمال، وروايات يشار كمال، وأشعار أوميد سرختي طالب الطب الذي ترك الدراسة والتحق بالفدائيين في البقاع، فرأته تلك الصحفية نسخةً من تشي غيفارا، وأحبته من خلال أشعاره وهي تترجمها من التركية إلى الإسبانية، حتى تلتقي به أخيراً، ثم تنفصل عنه لاحقاً.

 أوميد سرختي الذي يدعو على يده بالبتر، لأنها ارتفعتْ لتصوتَ على قرارات ظالمة، وحفلات تصفية جسدية ومسالخ أيديولوجية ، ومازال يكشفُ وينقبُ، حتى يحرقهُ المؤلف البلجيكي - يان-  في نهاية روايته وفي نفس المكان الذي أحرقتْ فيه- زكية ألكان-  نفسها ربما لأنه بات حاقداً عليها الأن بقدرِ حبه لها، فانتحارها هو من أشعل شرارة تلك الثورة في روحه، وألهبت صدره بتلك الصرخات المدوية الرافضة في زمنٍ متوحشٍ ومنفجرٍ، ويبقى لكل حقيقة ثمن!!!!!

ورواية- يان دو سخيير - الثالثة هي /قطار أعمى لا يخلف مواعيده/و نشهد فيها حياة الباحث الألماني - يورغن راينر- الذي يعشق اللغات ويجيدها، وعنده هوسُ الاستماع للحكايا، لذلك يسافرُ بالقطار لا بالطائرات، ليستمعَ أكثر ويراقبَ تفاصيل حكايا جديدة، يشهدها مصادفةً في رحلاته، بقالبٍ درامي جميل لايخلو وشغف المتابعة والقراءة.

روايةٌ غنيةٌ بالمعلومات والأفكار التي تدعو للتفكير والبحث، وما شدني حقيقةً هو الدقة في نقل المعلومة، والنضوج العميق الذي يفصحُ عن معرفةٍ دقيقة بكل حدث، وأبعاد كل قضية يتناولها المؤلف، وكأني بكلماتهِ ستارةٌ كاشفةٌ، وفيضُ معلوماتٍ تمطرُ محررةً بعضَ الصمتِ المطبق، وكأنه اليمُ ينجو منه القارئ الجاد مستمتعاً بشغف السباحة، ويغرق فقط من لا يجيد صعود المرتفعات ومواجهة الأعماق ولذة السفر في عوالم الإبداع.

مساحة أمكنة وأزمنة وحيوات واسعة جداً ، بل ومتداخلة بعض الشيء، لكن الموضوعات واضحة الدلالة والهدف، حيث الهوية والانتماء والحب الذي يفرض نفسه عنوةً، وكأنه الوجهُ الذي يعاكس الوجه المشوه للحروب.

قد نستطيعُ القولَ أيضاً أنها روايةٌ توثيقيةٌ توثق لحروبٍ وأحداثٍ حقيقيةٍ، والبعض منها متخيل لتخدم تلك الحقيقة أيضاً.

لن تُنصَف هذه الرواية إلا إذا قُرِأت وبرويةٍ ومتابعةٍ دقيقةٍ، بحيث لاتترك أصابعنا االمتشبثة الخيوط الأربعة رواية كاتبنا  - هوشنك أوسي - وحفلة أوهامه المفتوحة، والروايات الثلاث الأخرى التي تنضوي بين دفتي روايته.

ربما اتبعتُ طريقة - الخطف خلفاً - في قراءتي للرواية فالكاتب والشاعر البلجيكي الذي اختفى وبظروفٍ غامضةٍ ودون أن يتركَ أي دليل أو أثر يدل عليه، إلا رسالةً يعهدُ فيها بأنه سيحرق كل أعماله الأدبية والشعرية وحتى لوحاته التشكيلية، ليستلمَ ملف قضيته الضابط /إيريك فإن مارتن /ضابطٌ لايملكُ أي دليل، على اختفاء هذا الشاعر البلجيكي لذلك يقرر أن يلجَ عوالمه الروائية، من خلال الروايات الثلاث ليصبح مفتوناً فيما بعد، بعوالمه وشخوصه وعالمه الروائي إلى الحد الذي يترك فيها القضية، ليستلمها محققٌ آخر، ملتفتاً هو إلى عالم الأدب.

لا أجزمُ أن كان ذاك المحقق قد أعلن الفشل في استخدامه للأدب، كمادةٍ للتحقيق والبحث عن المؤلف المختفي، لكن لايُخفى مطلقاً تأثير الأدب في تغيير الشخصية وتوجهاتها ورسم معالم جديدة للفكر.

والجميل في الرواية أنها انتهتْ بنهايةٍ مفتوحةٍ، تلك النهايات التي أحبها، والتي يستغربُ البعضُ مني حبي لذلك الفراغ الممتد والتأويل الذي يبقى يلاحقُ المتخيلة مهما حاولنا النسيان.

وبقي أن أنوه أن الكاتب هوشنك أوسي قد أهدى روايته - حفلة أوهام مفتوحة -إلى الطفل الكوردي السوري ألان، الذي غرق في بحر أيجا عام ٢.١٥، وأهداها كذلك إلى ضحايا الأوهام وضحايا الحقائق.

 ولن تنضجَ معالمُ الروايةِ للقارئ، إلا بعد قراءتها فلكلِ قارئٍ رؤيةٌ وذوقٌ خاصٌ في تناوله للعمل الإبداعي.