كوردی عربي بادینی
Kurdî English

أخبار أراء التقارير لقاءات اقتصاد ملتميديا لایف ستایل ثقافة و فنون
×
بكر صدقي 18/01/2021

صورة بشار الأسد في «يوميات قاض سوري»!

يروي حسين حمادة في كتابه المعنون «يوميات قاض سوري في العمل القضائي والسياسي والثوري» الصادر قبل أشهر، ثلاثة لقاءات جمعته مع السفاح السوري بشار الأسد، من المفيد تسليط الضوء عليها لأنها تساعدنا على رسم صورة مقربة له من شأنها تفسير جانب من مأساة هذا البلد المنكوب.
الكاتب قاض منشق شغل مواقع عدة في المؤسسة القضائية، إضافة إلى عضوية قيادة فرع حلب لحزب البعث الحاكم، وقام بمبادرات عديدة للعمل السياسي المعارض، بعد انشقاقه وخروجه إلى منفاه التركي، فكان شاهداً على أحداث كثيرة وجمعته الظروف مع شخصيات كثيرة وشارك في فعاليات مهمة، سواء في مرحلته الأولى داخل بنية النظام، أو في مرحلته الثانية بعد انشقاقه المعلن. الكتاب غني بالوقائع الجديرة بالاهتمام، لكن هذه المقالة ستقتصر منه على سطور قليلة خصصها لشهادته الشخصية عن بشار الأسد.
«التقيت به أكثر من مرة» يقول حمادة «وكان في المرة الأولى مبهراً بحديثه المتماسك الشامل، وفي المرة الثانية أعاد الحديث نفسه حروفه وفواصله ونقاطه، فأدركت أنه يحفظ النصوص جيداً ويرددها كروبوت آلي! ولقطع الشك باليقين، سألتُهُ عن موضوع خارج السياق، فأجابني جواباً لا علاقة له بالسؤال، وكان يتحدث وهو يؤشر بيديه ويحرك فمه ويصدر أصواتاً من فمه دون أن أميزها هل هي ضحك أم بكاء!» ويضيف حمادة معلقاً: «أدركتُ لدرجة اليقين بأن صاحبنا مجنون». (حسين حمادة: يوميات قاض سوري في العمل القضائي والسياسي والثوري» نون للنشر والتوزيع 2020، ص 133).
تتقاطع هذه الشهادة مع ما نعرفه من خطابات بشار التي تتألف، عادةً، من قسمين، الأول المكتوب متماسك، بصرف النظر عن مضمونه، والثاني مرتجل يكاد أن يكون لغواً بحتاً، تتخلله في أكثر الحالات ضحكات عجيبة تعطي الانطباع بشخص غير متوازن عقلياً.
وفي إحدى زياراته لمدينة حلب استدعى قيادة فرع حزب البعث في المدينة، وكان الكاتب حمادة عضواً فيها، فاستقبلهم في غرفة صغيرة في قصر الضيافة، أو القصر الرئاسي في حلب، وبدأ يخاطبهم. كان باب الغرفة مفتوحاً، ظهر فيه مدير القصر إياد غزال وأشار لبشار بأصبعه «فهرول هذا إلى الباب وابتعد مع غزال، ولم يعد إلى الاجتماع»!

إياد غزال هو أحد الشخصيات المقربة من بشار، كان مديراً لمؤسسة السكك الحديدية حين حدث الاجتماع المذكور، ثم عيّنه بشار محافظاً لمدينة حمص حيث كان مستهدفاً بصورة خاصة في شعارات المظاهرات الاحتجاجية في الأشهر الأولى من الثورة 2011. وقبل ذلك قدم سكان المدينة شكاوى كثيرة بحقه بسبب تسلطه وفساده، فكان بسلوكه الوظيفي أحد أسباب الاحتقان فيما سيسمى لاحقاً بعاصمة الثورة السورية. يمكننا أن نفهم من الحادثة المذكورة أن العلاقة بين الرجلين أعمق بكثير من التراتبية السلطوية، فمن المحتمل أنه كان بمثابة «مدير ملذات الرئيس» على غرار من كانوا يحملون هذه الصفة في الأنظمة السلطانية القديمة. هذا على أي حال ما يوحي به الكاتب ولا يفصح. ففي اليوم التالي التقى حمادة مع إياد غزال وسأله عن إشارته بأصبعه لبشار، فضحك غزال وقال: «افهمها كما تريد». فألح حمادة في السؤال: هل بينكما علاقة تسمح لك برفع الكلفة إلى هذا الحد؟ «وألمحتُ في سؤالي إلى قضايا سبق ومرت عليّ وأنا قاضي تحقيق…!» عندها اصفر لون وجه إياد غزال وقال لي: مثل هذه الأمور لا يجري المزاح فيها (ص 135 من الكتاب).
بصرف النظر عن العلاقة الخاصة الملمح إليها التي قد تسمح لغزال برفع الكلفة، فإن استدعاءه لبشار بتلك الطريقة المهينة أمام غرباء، واستجابة بشار له يشيران إلى بنية نفسية لا تتناسب مع موقع قيادي حتى لو كان الأمر يتعلق بقيادة عصابة أو مجموعة مراهقين أو سهرة سكر. فلا أحد يمكن أن يتقبل هذه المعاملة مهما بلغ به الهوان. أما عدم عودته إلى الاجتماع الذي انعقد بطلب منه، فهو يشير إلى مدى استهتاره بالشؤون العامة، ومن المحتمل أنه نسي الاجتماع والمجتمعين لأن «الأمر الملح» الذي جعل غزال يستدعيه بتلك الطريقة ربما كان من النوع الذي يوصف بأنه «قد أنساه حليب أمه».
ويتقاطع هذا الموقف مع ذلك الفيديو الشهير الذي يظهر فيه بشار لاحقاً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قاعدة حميميم الجوية، وضابط روسي يمنعه من اللحاق به ويحدد له «بروتوكول» الإذلال المخصص له، فيلتزم بشار ويقف بأدب ويداه معقودتان خلف ظهره.
اللقاء الثالث الذي جمع المؤلف مع بشار كان بمناسبة طلب حمادة استقالته من عضوية قيادة الحزب. فقد استدعي إلى دمشق للقاء بالأمين القطري المساعد لحزب البعث سليمان قداح. وفي الموعد المحدد دخل مكتب قداح ففوجئ ببشار الأسد بدلاً من قداح. كرر طلبه بقبول استقالته من قيادة فرع الحزب، فعرض عليه بشار أن يعين محافظاً لدرعا أو دير الزور. فقال حمادة إنه يريد العودة إلى سلك القضاء. فقال بشار: هل تريد أن تصبح نائب رئيس الوزراء لشؤون الخدمات؟ فكرر حمادة رغبته في العودة إلى عمله في القضاء. فقال له بشار: «تلحس ط..».!
هذه الخفة في تقديم المناصب بقرار ارتجالي، وهذه البذاءة أمام تعفف الكاتب عن المناصب، يشيران أيضاً إلى المستوى الأخلاقي المنحط لشخص معتوه فوجئ، بعد موت أبيه، بأنه أصبح قادراً على فعل أي شيء مهما بلغ به الشطط، تحيط به جوقات من المصفقين المهللين بـ«عبقريته الفذة» التي يعرف أنه لا يملكها، ويتعامل مع السلطة كلعبة يستطيع تغيير قواعدها كما يشاء، ولا يحاسَب على أي شيء مهما بلغ به الإجرام والعته.
لقد نشأ بشار تحت السلطة الأبوية الصارمة لحافظ الأسد، واختفى في ظل أخيه الأكبر باسل الذي كان المفضل لدى أبيه باعتباره الوريث القادم للحكم، وفي حضن أم قوية تمكنت من إدخال أخيها، محمد مخلوف، وأولاده إلى الدائرة العائلية الضيقة للسلطة والثروة، وكان بشار ضعيفاً أمامها. وبقدر ما كان حادث السير الذي أودى بحياة باسل الأسد وبالاً على سوريا، كان وبالاً أيضاً على بشار الذي وجد نفسه فجأةً في موقع يتجاوز إمكانياته النفسية والعقلية.