كوردی عربي بادینی
Kurdî English

أخبار أراء التقارير لقاءات اقتصاد ملتميديا لایف ستایل ثقافة و فنون
×
بكر صدقي 30/11/2020

تركيا بين إصلاحات أردوغان الموعودة ومقاومة بهجلي العدوانية

من يراقب اليوميات السياسية التركية يحتاج إلى نوع من فك تشفير ما يحدث وما يطلقه السياسيون من تصريحات، إذا أراد أن يتوقع الوجهة القادمة، لكنه سيفشل في مسعاه وهو يرى حتى المحللين الأتراك الأكثر خبرة واطلاعاً ينقسمون في توقعاتهم إلى آراء مختلفة. وسبب ذلك هو غياب الشفافية لدى صناع القرار، إلى درجة دفعت بالكاتب يلدراي أوغور إلى تذكير قرائه بـ«علم» سياسي قائم بذاته كان مزدهراً إبان الحرب الباردة، هو «الكرملينولوجي» أي «علم الكريملين» الذي كان خبراؤه الأمريكيون والأوروبيون يعصرون أدمغتهم لسبر ما يحدث داخل جدران مركز السلطة في موسكو، فيلتقطون أوهن الإشارات ويحللون الكلمات ويقرأون وسائل الإعلام السوفييتية قراءات تأويلية معقدة ليصلوا في النهاية إلى خلاصات هشة لا تطعم خبزاً. في رأي أوغور أن الوضع في تركيا، اليوم، هو من هذا القبيل، فلا عمل للصحافيين والمحللين السياسيين إلا الإمساك بمجهر وقراءة ما بين السطور والكلمات وفك تشفير لغة الجسد، وتأويل معاني الصور.

مجموع ما حدث وقيل وكتب بين استقالة وزير المالية والخزينة العامة برات آلبيرق، قبل أسبوعين ونصف، واستقالة بولند آرنج من عضويته في الهيئة الاستشارية في القصر الرئاسي، قبل يومين، كان نموذجاً بارزاً للحالة المذكورة. صحيح أن تلك الأحداث والأقوال مفهومة بذاتها كلاً على حدة، لكن استخلاص التوقعات من مجموعها سيبقى ضرباً من التكهنات إلى أن يقول صاحب القرار قوله الفصل.

شكلت إقالة مدير المصرف المركزي التركي أول اعتراف حكومي بفشل السياسة النقدية السابقة، وبداية تغييرات لن تقتصر على المستوى المالي أو الاقتصادي، بل لا بد أن تتبعها المستويات السياسية والقضائية، وهو ما تحدث عنه الرئيس أردوغان بوضوح حين أعلن عن إطلاق «حملة إصلاحات اقتصادية وديمقراطية وحقوقية» الأمر الذي قوبل بردود فعل متفاوتة بين تفاؤل حذر وتشكيك في الضفة المعارضة، وتوجس وارتباك في الضفة الموالية، ومقاومة شديدة من الحليف القومي.

وإذا كان المتفائلون قد أسندوا تفاؤلهم إلى موجبات موضوعية قاهرة كحالة الاقتصاد الهشة، ونضوب رصيد المصرف المركزي من العملات الصعبة، وتدهور قيمة الليرة التركية، وانعكاسات ذلك على الطبقات الاجتماعية في أسفل السلم، وما قد يترتب على الاستياء العام الذي ظهرت بوادره من تآكل في شعبية الحزب والتحالف الحاكمين… من جهة أولى، وفوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وما قد يترتب على ذلك من زوال مظلة الحماية التي كانت تركيا تتمتع بها في عهد دونالد ترامب، وتصاعد المطالبات الأوروبية بمعاقبة تركيا بسبب صراع النفوذ في شرقي البحر الأبيض المتوسط والصراع في ليبيا، من جهة ثانية، وعودة التوتر إلى العلاقات التركية – الروسية، وانعكاس ذلك على الوضع الميداني في محافظة إدلب السورية، من جهة ثالثة؛ فلدى المتشائمين من جانبهم ما يدعمون به تشاؤمهم، ذلك أنه بمجرد إطلاق أردوغان وعوده المذكورة بشأن الإصلاحات، وعودته إلى التأكيد على هدف تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، حتى صعد رجل المافيا الشهير علاء الدين جاقجي المقرب من رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي خشبة المسرح السياسي ليرسل رسالة تهديد علنية مملوءة بالإهانات لرئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كلجدار أوغلو.

جاقجي هذا الذي قضى عشرين عاماً في السجون التركية بعد إدانته بتهم تتعلق بالتحريض على القتل، تم إطلاق سراحه قبل أشهر في إطار تعديل جزئي على بعض القوانين، وبنتيجة إلحاح دولت بهجلي على استصدار عفو عام أو خاص بشأنه.

على رغم فضائحية رسالة جاقجي التي من المفترض أن يلاحقه القضاء بسببها، فالأغرب منها دفاع بهجلي عنه حين وصف زعيم المافيا المذكور بأنه «رفيق درب قضيتي»! في مسعى منه لقطع الطريق على أي محاسبة قضائية له بجريمة التهديد بالقتل. في حين التزمت السلطة وإعلامها الصمت المطبق.

وتلت كلام أردوغان بشأن الإصلاحات تصريحات لوزير العدل في حكومته، عبد الحميد غل، وضع فيها النقاط على الحروف بشأن وجهة الإصلاحات المذكورة في مجال القانون والقضاء، ومنها ضرورة العودة إلى مبدأ براءة المتهم حتى إدانته، وما يعني ذلك من وجوب عدم توقيف المتهم قبل صدور حكم قضائي بحقه، وهو ما يشمل كثيرين أبرزهم الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دمرتاش والروائي محمد آلتان ورجل الأعمال عثمان كافالا.

وظهر المستشار الرئاسي بولند آرنج على شاشة إحدى محطات التلفزيون، فتحدث بصراحة عن رأيه بوجوب إطلاق سراح كافالا ودمرتاش الموقوفين منذ أربع سنوات باتهامات «لا تقنع طفلاً» على حد تعبيره. آرنج ليس رجلاً عادياً، فهو أحد ثلاثة قادة أسسوا حزب العدالة والتنمية الحاكم، إلى جانب أردوغان وعبد الله غل، وشغل مناصب رفيعة في السلطة، رئيساً للبرلمان ونائباً لرئيس الوزراء، كما أعلن ولاءه للحزب ورئيسه أردوغان حين كان عبد الله غل بصدد ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة في مواجهة أردوغان في العام 2018، وكذا حين انشق عن الحزب الحاكم كل من أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان وأسسا حزبيهما المعارضين.

تلقى آرنج توبيخاً عنيفاً من أردوغان بسبب تلك التصريحات، فاتهمه الأخير بإشعال نار فتنة بذريعة حديثه عن الإصلاحات. وإذ سئل آرنج عما إذا كان سيستقيل من منصبه، ترك الباب مفتوحاً للتفاهم بقوله إن الرئيس جرحه، لكنه سينتظر حتى يلتقي به، وبعد ذلك سيقوم بما يلزم. لا نعرف ما إذا حدث اللقاء المأمول أم لا، لكن النتيجة جاءت بسرعة واستقال آرنج.

انشغل المحللون، إذن، بتصور الصراع الدائر وراء الجدران المغلقة بين شريكي «تحالف الجمهور» أي أردوغان وبهجلي. فالأول الذي أقلقه اتجاه الأمور، في الاقتصاد وفي العلاقات الدولية، فأطاح بصهره من وزارة المال، وأتى بمدير جديد للبنك المركزي، فراح يتحدث عن إصلاحات شاملة على أمل عكس المسار الانحداري، اصطدم، بصورة لا مفر منها، بشريكه في التحالف الحاكم بهجلي الذي شعر بالخوف من تخلي أردوغان عنه فأطلق تحذيره الأول من خلال تهديد زعيم المافيا لرئيس حزب المعارضة الرئيسي، ثم لم يتمالك نفسه، فشنّع على بولند آرنج واتهمه بـ«الحنين إلى أصله» قاصداً بذلك أصله الكوردي.

الآن يقف أردوغان أمام مفترق طرق: إما فك تحالفه مع بهجلي والمضي قدماً في تغييرات سياسية كبيرة في محاولة للعودة إلى السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، أو الاستمرار في الوضع الحالي. ولكل خيار من الخيارين مستتبعات وعواقب لا يمكن التكهن بها، لكنها سلبية بالقدر نفسه من زاوية نظر الاستمرار في السلطة.