كوردی عربي بادینی
Kurdî English

أخبار أراء التقارير لقاءات اقتصاد ملتميديا لایف ستایل ثقافة و فنون
×
يحيى الكبيسي 21/08/2020

العراق: عن طائفية الدولة ثانية

في الأسبوع الماضي تحدثنا عن مهزلة الإفراج عن متهمين اعترفا بجريمة قتل أربعة وثلاثين مصليا في مسجد مصعب بن عمير بمحافظة ديالى عام 2014، وقد حكم عليهما بالإعدام، ولكن محكمة التمييز قررت نقض الحكم والإفراج عن المتهمين. اكتشفنا بعد كتابة المقال، أن الموضوع أكثر كوميديا من هذا المشهد! فقد نقضت محكمة التمييز حكمين وليس حكما واحدا؛ واحدا بالإعدام صدر في العام 2015 ضد المتهمين، وحكما ثانيا صدر عام 2020 بالسجن المؤبد ضد المتهمين نفسيهما، عن الجريمة نفسها، وان هويتهما الطائفية وارتباطاتهما المليشياوية هي التفسير الوحيد لهذين القرارين!
ففي آب/ أغسطس 2018 قررت محكمة التمييز نقض قرار الإعدام الصادر ضد المتهمين «وإعادة إضبارة الدعوى إلى محكمة التحقيق بغية اكمال الإجراءات القانونية فيها» ولكن القرار الصادر عن المحكمة الثانية سيكشف لنا أن المتهمين قد تم إطلاق سراحهما، بدليل ان مقتبس الحكم يشير إلى أنه تم توقيفهما بتاريخ 10 كانون الثاني/ يناير 2019! لتكتمل المهزلة بالحكم على المتهمين نفسيهما بالسجن المؤبد بتاريخ 7 كانون الثاني/ يناير 2020 بموجب المادة الرابعة/ 1 من قانون مكافحة الإرهاب والتي تنص على أن «يعاقب بالإعدام كل من ارتكب»… من دون ان تخبرنا المحكمة كيف حكمت بالمؤبد وفق مادة تنص على الحكم بالإعدام حصرا! وبدلالة المادة الثانية/ 1 و 3 من القانون نفسه المتعلقة بالقيام بأفعال إرهابية، وتنظيم وقيادة عصابة مسلحة إرهابية!
لتعود محكمة التمييز لنقض قرار المحكمة ثانية، مستندة في ذلك اولا إلى ان «الدليل الوحيد في القضية هو اعتراف المتهمين أمام القائم بالتحقيق وهذا الاعتراف لا يكفي سببا للحكم بتجريمهما» وإلى أن أحد المتهمين «استحصل على تقرير طبي يؤيد وجود تندبات [كذا] وتغيرات لونية تزامنت مع تاريخ تدوين أقواله»! لنكون أولا أمام اول قضية يتم نقضها اعتمادا على إنكار المتهمين للاعترافات الذين أدلوا بها! وأول قضية يتم نقضها بناء على مجرد «ايحاء» بوجود تعذيب لأحد المتهمين وليس كليهما! مع نسيان موضوع تنظيم وقيادة عصابة مسلحة تماما!
كان يمكن أن ننخدع بهذا الادعاء، لولا التاريخ الطويل من الممارسات المنهجية التي تثبت أن القضاء العراقي لم يكن يتعاطى مع إنكار المتهمين للاعترافات أمام قاضي التحقيق! وأنه كان يتعامل مع الاعترافات المنتزعة بالتعذيب بشكل روتيني! وأنه كان يرفض بشكل منهجي التحقيق في ادعاءات التعذيب، وأنه في المرات القليلة التي يحقق فيها القضاء في دعاوى الاعتراف تحت التعذيب، لم يكن يترتب على هذا التحقيق أي إجراء قانوني أو تغيير في الأحكام.
تشير تقارير بعثة الأمم المتحدة في العراق «يونامي» بشكل شبه روتيني إلى أن «القضاة، بانتظام، لا يتخذون أي إجراء عندما يثير المتهمون ادعاءات أمام المحكمة بأنهم تعرضوا للتعذيب من أجل اجبارهم على الاعتراف بالجرائم التي يحاكمون لأجلها»! ففي التقرير الأخير الخاص بحقوق الإنسان (تشرين الثاني/ نوفمبر 2016) الذي تصدره بعثة الأمم المتحدة في العراق بشكل دوري)، يعبر مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان عن شعوره بالقلق « لعدم وجود التزام ثابت بمعايير الإجراءات الأصولية ومعايير المحاكمة العادلة»! وأنه «نادرا ما يحقق القضاة في الادعاءات بأن الاعترافات كانت قد انتزعت بالقوة او من خلال التعذيب وإساءة المعاملة، مفضلين الاعتراف بها كدليل ويأخذون بها لإدانة المتهمين»!
وفي تقرير هيومان رايتس ووتش المعنون «قضاة يتجاهلون مزاعم التعذيب» صدر في تموز/ يوليو 2018 تقول المنظمة انها قامت بمراجعة 30 قضية بين عامي 2008 و2009 زعم فيها المتهمون تعرضهم للتعذيب، رفض فيها القضاة الرد بأي شكل من الأشكال على هذه الادعاءات في 22 قضية منها! وفي الأخرى أمر القاضي بإجراء فحص طبي ووجد آثار التعذيب «لكنه لم يأمر بالضرورة بإعادة المحاكمة او التحقيق، أو مقاضاة الضباط والعناصر المسيئين»!

وتنقل المنظمة واقعة أخرى كانت فيها شاهد عيان: « في يوليو/تموز 2018، أخبر أحد المتهمين القاضي في محكمة الجنايات المركزية ببغداد بأنه تعرض للتعذيب لانتزاع الاعتراف منه، لكن القاضي تجاهل شكواه، حسب مراقبين مستقلين في المحكمة. قال المتهم إن الشرطي الذي عذبه أجبره على التوقيع على اعتراف وهو معصوب العينين ومقيد اليدين. رفض القاضي طلبه السماح له بأن يبرهن له بأن توقيعه الحقيقي مختلف تماما. قال أحد المراقبين: «لم يُبد القاضي أي استجابة للالتماس، فقط أدانه وحكم عليه بالإعدام».
في تقرير آخر للأمم المتحدة نشر في كانون الثاني/ يناير 2020، واستند إلى مراقبةٍ مستقلةٍ لـ 794 محاكمة لأفرادٍ متهمين بالانتماء لداعش، من 1 أيار/ مايو 2018 إلى 31 تشرين الأول/أكتوبر 2019، انتهى التقرير إلى وجود «انتهاكات لمعايير المحاكمة العادلة» عرضت المتهمين إلى «غبن كبير». من خلال الاستناد المفرط على الاعترافات مع وجود مزاعم متكررة بالتعرض للتعذيب وسوء المعاملة لا تتعامل معها المحكمة على نحو ملائم.
ويوثق التقرير واقعة محاكمة المتهمين في جريمة سبايكر رفض القاضي ادعاء 19 متهما بأنهم تعرضوا للتعذيب خلال الاستجواب، وادعى آخرون بانهم اجبروا على الاعتراف أو توقيع اعترافات مزورة، رفض القاضي هذه الادعاءات رفضا قاطعا! وعندما حاول أحد المتهمين أن يبين للقاضي آثار التعذيب «رفض القاضي التحقيق في الادعاء»! وعندما طعن المتهم نفسه بصحة التوقيع على اعترافه المزعوم «قام القاضي بتوبيخه مدعيا بان «شرف المهنة» يمنع المحققين من تزوير هكذا وثيقة»!
لقد تم الحكم على آلاف الأبرياء طوال السنوات الماضية، عبر المخبر السري سيئ الصيت، وعبر الفشل في الالتزام بالمعايير المتعلقة بالقاء القبض والاتهام والتحقيق، وعبر اعترافات انتزعت بالتعذيب، وعبر منع المتهمين من الحصول على حق الدفاع أو عبر دفاع شكلي، وعبر محاكمات غير عادلة (تقرر الأمم المتحدة أن امتثال القضاء العراقي بالإجراءات الأصولية الدولية والدستورية معايير المحاكمة العادلة تكتنفه المشاكل)، وقد كشفت قضية مسجد مصعب بن عمير عن طبيعة المعايير المزدوجة، التي يعتمدها القضاء العراقي. ولا يمكن فهم هذه الازدواجية، إلا من خلال مراجعة التاريخ الطويل لتبعية القضاء العراقي للسلطة التنفيذية، فقد كان هذا القضاء يتبع وزارة العدل 1921 ـ 2003، وقد فشل هذا القضاء في الدفاع عن استقلاليته التي نص عليها الدستور العراقي 2005، على الرغم من اعتماد هذا الدستور على مبدأ الفصل بين السلطات لأول مرة في تاريخ العراق الحديث. بل ظل خاضعا بشكل كامل لإرادة الفاعل السياسي الأقوى، وتحول إلى أداة لتصفية الحسابات السياسية، والأخطر من ذلك أن القضاء دخل طرفا في سياق تطييف الدولة نفسها!
وقبل أن يصدعنا أحدهم بالحديث عن خرافة استقلالية القضاء في العراق، ليقرأ الواقعة الآتية: في 3 شباط/ فبراير 2010 أصدرت الهيئة التمييزية السباعية الخاصة بالانتخابات، وقراراتها قطعية وباتة بموجب القانون، قرارا بتأجيل النظر في الطعون المتعلقة باجتثاث بعض الشخصيات السياسية، ومنعها من خوض انتخابات مجلس النواب لعام 2010، معللة قرارها بان ذلك «يتطلب وقتا لا ينسجم ولا يتناسب مع الوقت المحدد مع موعد بدء الحملة الانتخابية». وهو ما استدعى اعتراضا علنيا من رئيس مجلس الوزراء حينها نوري المالكي، وبالفعل صدر قرار يوم 7 شباط/ فبراير عن الرئاسات الأربع: رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، ألزم الهيئة التمييزية بإنجاز مهامها في حسم هذه الطعون في موعد لا يتجاوز بدء الحملات الانتخابية! وفجأة لم يعد القرار قطعيا وباتا، واضطرت الهيئة التمييزية إلى العودة عن قرارها الأول، واجتثت الشخصيات السياسية موضع الطعن! لذلك يمكن الاستناد إلى هذه السابقة «السياسية» للعمل على استصدار قرار «سياسي» وعبر الصيغة نفسها، بإعادة النظر في قرار محكمة التمييز بشأن المتهمين في قضية مسجد مصعب بن عمير، لتحقيق العدالة هذه المرة وليس لمجرد الانتقام السياسي كما في الحالة الأولى!