كوردی عربي بادینی
Kurdî English

أخبار أراء التقارير لقاءات اقتصاد ملتميديا لایف ستایل ثقافة و فنون
×
د. ياسر عبد العزيز 03/08/2020

هل تغسل «بي بي سي» أخباراً؟

لا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع عن تفاصيل عملية جديدة لـ«غسل الأموال» تجري وقائعها في إحدى دول العالم؛ وهو أمر يتزايد باطراد في ظل تضخم الثروات الناتجة عن الأعمال الإجرامية من جانب، وتدقيق السلطات في مصادر الأموال المنخرطة في أوعية الاقتصاد الرسمية من جانب آخر.

و«غسل الأموال» ببساطة هو عملية تستهدف تحويل الأموال الناتجة عن الفساد وممارسة الجريمة إلى «أموال نظيفة» يمكن أن تتدفق عبر أوعية الاقتصاد وقنوات الاستثمار المشروعة، ولكي تنجح هذه العملية فعليها أن تمر بثلاث مراحل؛ أولاها إيداع تلك الأموال في قناة «نظيفة»، وثانيتها تمويه أصل تلك الأموال أو اختلاق مصدر سليم لها، وثالثتها استثمار تلك الأموال ودمجها ضمن أوعية الاقتصاد المشروعة.
يحدث مثل هذا النشاط الآثم أيضاً في صناعة الإعلام، بحيث يمكن القول إن ثمّة آلية مستقرة في تلك الصناعة تستهدف «غسل الأخبار»؛ أي تحويل «أخبار مختلَقة وفاسدة» إلى «أخبار نظيفة»، ويجري هذا عادةً من أجل تحقيق مصلحة سياسية مغرضة ومشبوهة، وكثيراً ما يحقق نجاحاً.

يسود اعتقاد واسع بين باحثين مفاده أن أحد أسباب تسهيل انخراط الصين في الحرب العالمية الأولى لم يكن سوى عملية «غسل أخبار» ناجحة؛ إذ يعتقد الدكتور ديفيد كلارك، من جامعة «شيفيلد هالام» البريطانية، الذي يبحث في القصص التي خدعت العالم على مدى قرن من الزمان، أن خبراً «مغسولاً» تم نشره في الصحف البريطانية في عام 1915 لينتقل سريعاً إلى الصحافة الصينية، التي نشرته بوصفه خبراً «دقيقاً»، هيّأ الرأي العام في الصين لقبول فكرة خوض الحرب العالمية الأولى، ويسّر للقادة الصينيين اتخاذ هذا القرار الصعب، فيما كانت المعارك تدور على بُعد آلاف الأميال في قلب أوروبا.

وبدأت تلك القصة المثيرة حين نشرت بعض الصحف المغمورة في بريطانيا أخباراً مختلَقة عن وجود «مصنع جلسرين» في ألمانيا يستخدم جثث الجنود الموتى لاستخراج هذه المادة المطلوبة في المصانع الألمانية، وسرعان ما تلقفت صحف كبرى ومرموقة هذا الخبر، وأعادت نشره بوصفه حقيقة، لتنقله الصحف الصينية، ويعلّق عليه مسؤولون صينيون بوصفه «ممارسة إجرامية مشينة»؛ وهو الأمر الذي لاقى استهجاناً واسعاً وبلور مشاعر الغضب تجاه ألمانيا، بما سهَّل إعلان الحرب عليها لاحقاً.
في الأسبوع الماضي، وقعت، على الأرجح، حادثة «غسل أخبار» جديدة وخطيرة لم يلتفت إليها كثيرون؛ إذ نشرت وكالة أنباء «الأناضول» الرسمية التركية خبراً مفاده أن مصر نشرت جنوداً في سوريا بالتنسيق مع «الحرس الثوري» الإيراني، وهو الخبر الذي تقول الوكالة إنها نقلته عن مصادر «عسكرية موثوقة».

سيمكن لأي متابع حصيف أن يدرك أن هذا الخبر ليس إلا محاولة غير مدروسة للتشويش على مصر، في ظل نزاعها مع تركيا في أكثر من ملف، أو دق إسفين في العلاقات بينها وبين حلفائها الخليجيين، خصوصاً أن «الأناضول» ليست سوى ذراع دعاية حكومية تركية، ولا تحظى بوجاهة مهنية لأسباب عديدة، وأن الخبر منقول عن مصادر مُجهلة، وأنه لا ينسجم مع الاعتبارات الدستورية أو السياسية التي تعتمدها القاهرة.
لكنّ هذا الخبر يمكن أن يُحدث الأثر المطلوب إذا تم «غسله»، عبر إيداعه في «قناة مشروعة نظيفة»؛ وهو تقريباً ما جرى حين تلقفت «بي بي سي» الخبر، وسارعت إلى نشره تحت عنوان «الحرب في سوريا: تقارير تركية تؤكد إرسال مصر قوات إلى مناطق شمال الأراضي السورية».

عبر نشر مثل هذا الخبر المختلَق، الذي نفته مصادر سورية مستقلة ومصادر مصرية مسؤولة لاحقاً، في «بي بي سي»، يتحول إلى خبر «مغسول»، ويمكن لاحقاً أن تنقله وسائل إعلام دولية وإقليمية معتبرة، ويمكن أيضاً أن يصبح في منزلة «حقيقة».
لم تكن هذه حادثة نادرة في تاريخ «بي بي سي»، التي وقعت، كغيرها من وسائل الإعلام الكبرى، في بعض الأخطاء على مر العقود التي خدمت خلالها الجمهور البريطاني والعالمي، عبر تقديم تغطيات كثيراً ما تحلَّت بقدر معتبَر من الدقة والجودة.
ورغم أننا ندرك أن ثمة عديد الأسباب التي تؤدي إلى وقوع الأخطاء الكبيرة حتى في وسائل الإعلام النافذة والمرموقة؛ فإن «غسل الأخبار» مخالفة صارخة لا تحدث عادةً من دون ترتيب؛ وهو أمر يستوجب توضيحاً واعتذاراً.